الاثنين، 9 مارس 2015

شَرْحُ حَدِيْثِ فِتْنَةِ الْأَحْلَاسِ وَفِتْنَةِ السَّرَّاءِ وَفِتْنَةِ الدُّهَيْمَاءِ... د. ناصر السخني

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِين, وَالصَّلاَةُ وَالسَّلامُ عَلَىَّ رَسُولُ اللهِ مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ الأمِيْن, وَبَعْدَ؛

     جَاءَتْنِي الْكَثِيرُ مِنَ الرَّسَائِلِ الَّتِي يَقُولُ مُرْسِلُوهَا لِي: لَمْ أَفَهُمْ مَعْنَى هَذَا الْحَديثِ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ؛ وَيَطْلُبُونَ مِنِّي شَرْحَ الْحَدِيثِ؛ وَهُمْ يَقْصدُونَ الْحَدِيثَ النَّبَوِيَّ الصَّحِيحَ التَّالِي:


      عَنْ عَبدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عَنهُمَا: "كُنَّا قُعُوداً عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ فَذَكَرَ الْفِتَنَ فَأَكْثَرَ فِي ذِكْرِهَا حَتَّى ذَكَرَ فِتْنَةَ الْأَحْلَاسِ؛ فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا فِتْنَةُ الأَحْلَاسِ؟! قَالَ: هِيَ هَرَبٌ وَحَرَبٌ.
ثُمَّ فِتْنَةُ السَّرَّاءِ؛ دَخَنُهَا مِنْ تَحْتِ قَدَمَيْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، يَزْعُمُ أَنَّهُ مِنِّي وَلَيْسَ مِنِّي، وَإِنَّمَا أَوْلِيَائِي الْمُتَّقُونَ، ثُمَّ يَصْطَلِحُ النَّاسُ عَلَى رَجُلٍ كَوَرِكٍ عَلَى ضِلَعٍ.
ثُمَّ فِتْنَةُ الدُّهَيْمَاءِ؛ لَا تَدَعُ أَحَداً مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا لَطَمَتْهُ لَطْمَةً، فَإِذَا قِيلَ انْقَضَتْ تَمَادَتْ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيهَا مُؤْمِناً، وَيُمْسِي كَافِراً، حَتَّى يَصِيرَ النَّاسُ إِلَى فُسْطَاطَيْنِ: فُسْطَاطِ إِيمَانٍ لَا نِفَاقَ فِيهِ، وَفُسْطَاطِ نِفَاقٍ لَا إِيمَانَ فِيهِ، فَإِذَا كَانَ ذَاكُمْ فَانْتَظِرُوا الدَّجَّالَ مِنْ يَوْمِهِ أَوْ مِنْ غَدِهِ".([1]).

    وَسَأُحَاولُ الإيجازَ والإختصارَ مَا استَطعتُ فِي الشَّرحِ؛ وَمَنْ أَرَادَ أنْ يَتَوَسّع في تَفْسِيرِ الحَدِيثِ فَلْيَرجِع لِكتابِ (عَون المَعبُودِ شَرْحِ سُنَنِ أبِي دَاوُدَ).([2]).

    فَأقُولُ مُستَعِيناً باللهِ: هَذهِ الفتنُ كَمَا يظهرُ مِن الحَديثِ فتنٌ مُتتابعةٌ مُتلاحقةٌ مُتَداخلةٌ, وهي آخرُ الفتنِ المُعتَبَرَةِ التي تقعُ قبلَ ظُهورِ الدَّجَالِ؛ لِقَولِهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّم: "فَإِذَا كَانَ ذَاكُمْ فَانْتَظِرُوا الدَّجَّالَ مِنْ يَوْمِهِ أَوْ مِنْ غَدِهِ". 

   ولا أَرى أنَّ هَذهِ الفِتَنَ إنْ انْتَهَتْ الأُولَى (الْأَحْلَاس) سَتبدأُ الثَّانِيَةُ (السَّرَّاء), ثمَّ إنْ انْتَهَتْ الثَّانِيَةُ (السَّرَّاء) سَتبدأُ الثالثة (الدُّهَيْمَاء)؛ بلْ مَا أَرَاهُ أَنَّ الْأَحْلَاسَ بَدَأَتْ, وَتَلتهَا السَّرَّاء وَما تَزالُ الْأَحْلَاسُ مُستمرةً وتتداخلُ فيها. وَتَلتهَا الدُّهَيْمَاء وَما تزالُ السَّرَّاء مُستمرةً؛ وَما تزالُ الْأَحْلَاس مُستمرةً, وتتداخلُ الفِتنُ الثَّلاثةُ فِي بَقايا بَعضِهَا. حتَّى يَنْتَهِي الأَمرُ بِالدُّهَيْمَاءِ إِلَى فُسْطَاطَيْنِ: فُسْطَاطِ إِيمَانٍ، وَفُسْطَاطِ نِفَاقٍ. ثمَّ يكونُ الدَّجَّال. وَالله أَعلَمُ.

أولاً: (فِتْنَةُ الأَحْلاسِ، هيَ فِتْنَةُ هَرَبٍ وحَرَبٍ): أي فِتْنَةٌ دَائمَةٌ أو مُلازِمَةٌ؛ لأنَّ الأحْلاسَ جَمعُ حِلْس؛ والحِلْس؛ وَهُوَ الْكِسَاءُ الَّذِي يَلْتَصِقُ بِظَهرِ البَعِيرِ. وَيُقَالُ: هُوَ حِلْسُ بيته: أي لا يبرحُهُ.
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: (إِنَّمَا أُضِيفَتْ الْفِتْنَة إِلَى الْأَحْلَاس لِدَوَامِهَا وَطُول لُبْثهَا أَوْ لِسَوَادِ لَوْنهَا وَظُلْمَتهَا).
* (هَرَب): أَيْ يَفِرّ بَعْضهمْ مِنْ بَعْض لِمَا بَيْنهمْ مِنْ الْعَدَاوَة وَالْمُحَارَبَة.
* (وَحَرَب): أَيْ النَّهْب والسَّلب.

   إِذَن فَهي فتنةٌ فِيهَا هُروبٌ وَتشريدٌ وَلجوءٌ ومُحاربةٌ وعَداوةٌ وَذُعرٌ وسَلبٌ ونَهبٌ. وَكَمَا لا يخفى على بَصيرٍ أنَّ هَذا حَال الأمَّةِ مُنذُ أنْ تقطَّعتْ وتَمزَّقتْ إلى دُويلاتٍ وقبائل يقاتِلُ بَعضُها بَعضَاً, ويسلبُ بَعضُها بَعضَاً. وَيَفِرُّ بَعضُها مِن بَعض؛ إلى أنْ قَامتْ الثَّورةُ العَربيةُ الكُبرى لِتَتَدَاخَل فِتْنَةُ الأَحْلاسِ مع فِتْنَةِ السَّرَّاءِ.
أقولُ: انْتَبهْ مَعي أنَّ حَربَ الخَليجِ مَثَلاً هِي مِن فِتْنَةُ الأَحْلاسِ, وقَد استمرتْ رغمَ دخولِ فِتْنَةِ السَّرَّاءِ. وَالله أَعلَمُ.

ثَانِياً: (فِتْنَةُ السَّرَّاءِ): قَالَ الْقَارِي: (وَالْمُرَاد بِالسَّرَّاءِ النَّعْمَاء الَّتِي تَسُرُّ النَّاسَ مِنَ الصِّحَّة وَالرَّخَاء، وَالْعَافِيَة مِنْ الْبَلَاء وَالْوَبَاء، وَأُضِيفَتْ إِلَى السَّرَّاء لِأَنَّ السَّبَبَ فِي وُقُوعهَا اِرْتِكَاب الْمَعَاصِي بِسَبَبِ كَثْرَة التَّنَعُّم أَوْ لِأَنَّهَا تَسُرُّ الْعَدُوَّ.). أقولُ: وَالْمُرَاد بِالسَّرَّاءِ هِي التي ظَاهِرها يَسُرُّ, وَعَوَاقِبهَا تَضُرُّ. أَو التي فِيها نَعمَةٌ تَعقُبها نِقمَةٌ. وَالله أَعلَمُ.

* (دَخَنُهَا مِنْ تَحْت قَدَمَيْ رَجُل مِنْ أَهْل بَيْتِي): يَعْنِي ظُهُورُهَا وَإِثَارَتهَا مِنْ رَجُل مِنْ أَهْل بَيْتِ النَّبِيّ مُحَمدٍ صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم, وَأَنَّهُ بَاعِثٌ عَلَى إِقَامَتهَا.

* (يَزْعُمُ أَنَّهُ مِنِّي وَلَيْسَ مِنِّي، وَإِنَّمَا أَوْلِيَائِي الْمُتَّقُونَ): كمَا صَحَّ عَن النَّبِيّ مُحَمدٍ صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم في صحيح مسلم: "من بطّأ به عملُه، لم يسرعْ به نسبُه".
    وَلِفَهمِ مَنْ هُوَ هَذا الرَّجُل – حَسبَ رَأيي الشَّخصِيّ - عَلَينَا أنْ نَعودَ إلى دُخُولِ الدَّولَةِ العُثمَانِيَّةِ فِي الحَربِ العَالَميِّة الأَولَى عَام 1914م, وَوُصُولِ مُصطفَى كَمَال أتَاتُورك إلى السُّلطةِ, وَسِياستِهِ القَوميِّةِ بِالتَّترِيكِ, وَمُحَارَبَةِ اللغةِ العَرَبيةِ, وَفَرضِ اللغَةِ التُّركِيَّةِ عَلَى العَربِ، بِالإِضَافَةِ إلَى تَدَهورِ الأَوْضَاعِ الاقتصادِيَّة، مِمَّا أدَّى إلى أَنْ يَنصَحَ عَبدُ اللهِ الأَوَّل بنُ الحُسين أَبَاهُ الشَّرِيفَ الحُسينَ بنَ عَلِيٍّ الْهاشِمِيّ بِالتَّفَاوُضِ مَعَ الْبرِيطانِيِّينَ لِلْمُطَالَبَةِ بِمُسَاعَدَتِهمْ لِلْاِنْفِصالِ عَنِ الدَّوْلَةِ الْعُثْمانِيَّة, وَلِدَعمِ خِلاَفَةٍ إِسْلامِيَّةٍ عَرَبِيَّةٍ، وَهَذَا مَعنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم: (دَخَنُهَا مِنْ تَحْت قَدَمَيْ رَجُل مِنْ أَهْل بَيْتِي).

* (ثُمَّ يَصْطَلِحُ النَّاسُ عَلَى رَجُلٍ كَوَرِكٍ عَلَى ضِلَعٍ): قَالَ الْقَارِي: (هَذَا مَثَل؛ وَالْمُرَاد أَنَّهُ لَا يَكُون عَلَى ثَبَات, لِأَنَّ الْوَرِك لِثِقَلِهِ لَا يَثْبُت عَلَى الضلع لِدِقَّتِهِ, وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَكُون غَيْر أَهْل لِلْوِلَايَةِ لِقِلَّةِ عِلْمه وَخِفَّة رَأْيه.). أَيْ يَجْتَمِعُونَ عَلَى بَيْعَةِ رَجُلٍ غَيْرُ خَلِيقٍ لِلْمُلْكِ وَلَا مُسْتَقِلٍّ بِهِ. أَمْرهُ وَاهٍ لَا نِظَامَ لَهُ, وَأَنَّ الْأَمْر لَا يَثْبُت وَلَا يَسْتَقِيم لَهُ.

    وَلِفَهمِ مَنْ هُوَ هَذا الرَّجُل – حَسبَ رَأيي الشَّخصِيّ – عَلَينَا أنْ نعلَمَ أنَّ الْبرِيطانِيِّينَ تَوَاصَلُوا مَعَ شَرِيفِ مَكَّة الحُسينِ بنِ عَلِيٍّ وَعَرَضُوا عَلَيه خِدمَاتِهِم مِنْ خِلَالِ مَا عُرِفَ بِمُرَاسِلَاتِ الحُسَينِ – مَكمَاهُون ( وهيَ رَسَائِل عَامِي 1915م - 1916م الْمُتَبَادَلَةَ بَيْنَهُ وَهِنْرِي مَكمَاهُون الْمُمَثِّلِ الْأعْلَى لِبرِيطَانِيا فِي مِصْر).
   وَوَعَدَ مَكمَاهُون الشَّرِيفَ الحُسينَ بِاِعْتِرافِ برِيطانِيا بِآسِيَا الْعَرَبِيَّةِ كَامِلَة دَوْلَة عَرَبِيَّة مُسْتَقِلَّة إِذَا شَارَكَ الْعَرَبُ فِي الْحَرْبِ ضِدّ الدَّوْلَةِ الْعُثْمانِيَّةَ. وَتَمَّ ذَلِكً؛ فَأُعْلِنُ الشَّرِيفُ الحُسين الثَّوْرَةَ الْعَرَبِيَّةَ الْكُبْرَى عَام 1916م, مُتَحَالِفَاً مَعَ الْبرِيطانِيِّينَ ضِدُّ الدَّوْلَةِ الْعُثْمانِيَّة لِجُعِلَ الْخِلاَفَةُ فِي الْعُرْبِ بَدَلً الأتراك, وَلُقِّبَ بِـ مَلِكِ الْعَرَبِ. وَهَذَا مَعنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَليه وَسَلَّم: (ثُمَّ يَصْطَلِحُ النَّاسُ عَلَى رَجُلٍ كَوَرِكٍ عَلَى ضِلَعٍ).
     فَقَدِ اِصْطَلَحَ النَّاسُ عَلَى الشَّريفِ الحُسَين وَاخْتَارُهُ أَميرَاً لَهُمْ, وَلَمْ يَكُنْ حُكْمُهُ ثَابِتَاً؛ بَلْ كَانَ مُتَزَعْزِعَاً وَغَيْرَ مُسْتَقِرٍّ؛ لِأَنَّ الْوُعُودَ الْبرِيطانِيَّةَ تَمَّ خَرْقُهَا بِتَقْسِيمِ فَرَنْسا وَبرِيطانِيا لِلْمِنْطَقَةِ بِاِتِّفَاقِيَّةِ سَايْكس - بِيكُو السِّرِّيَّةِ.

   وَاِنْتَهَتْ الْحَرْبُ الْعَالَمِيَّةَ الْأوْلَى؛ وَحِينَ تَرَكَ الشَّرِيفُ الحُسَين مَكّة خَلَفَهُ أُكْبَرُ أَبِنَائِهِ الْمَلِك عَلِيّ بْن حُسين, وَلَكِنْ سَرْعَانَ مَا آلتْ أَغُلَب الْجَزِيرَةُ الْعَرَبِيَّةُ لِلْمَلِكِ عَبْدِ الْعَزِيزِ آلَ سُعُود بَعْدَ حُروبٍ وَمُعارِكٍ. والْمَلِكُ عَبْد اللَّهِ الْأَوَّل بْن حُسين أَسَّسَ إمَارَةَ شَرْقِ الْأُرْدُنِ 1921م, وَالْمَلِكُ فَيُصَلِّ الْأَوَّلُ بْنٌ حُسين أَوَّلَ مُلُّوكَ الْعِرَاقَ, وَمَلِكُ سُورِيَّا. وَزَيَّدَ بْنٌ حُسين، كَانَ وَلِي عَهْدُ الْمَمْلَكَةِ السُّورِيَّةِ الْعَرَبِيَّةِ.

   أقولُ: فَالْحُكْمُ لَمْ يَكُنْ ثَابِتَاً كَمَا هُوَ وَاضِحٌ تَاريخيّاً, وَالْفِتْنَةُ كَانَتْ عَظِيمَة, وَتَنَاهَتْ بِاِسْتِقْرارِ أَغْلِب الدُّوَلِ الْعَرَبِيَّةِ بَعْدَ الْاِسْتِقْلالِ مِنَ الْاِسْتِعْمارَيْنِ الْبرِيطانِيَّ وَالْفَرَنْسِيَّ. وَهِي الَّتِي ظاهِرَهَا يَسُرُّ, وَعَوَاقِبهَا تَضُرُّ. وهنا نرى أَنَّ الْأَحْلَاسَ بَدَأَتْ, وَتَلتهَا السَّرَّاء وَما تَزالُ الْأَحْلَاسُ مُستمرةً وتتداخلُ فيها.

    وَبَعْدَ سُرُورُ النَّاسِ بِالْاِسْتِقْلالِ عَنِ الاسْتِعمَارِ, وَالْأَمِنِ المُخَدّرِ وَالْأمَانِ, فِي ظَلَّ حُكَّامِ الْبِلادِ الْعَرَبِيَّةِ, وَمَعَ مُرُورِ الأيَّامِ بَدَأَ الْحُكَّامُ بِالْاِسْتِبْدَادِ وَالْقَهْرِ وَالْاِسْتِعْبادِ لِلْعِبَادِ؛ فَثَارَتْ الشُّعُوبُ عَلَى الْحُكَّامِ لِتَبْدأَ الدُّهَيْمَاءُ.

* (ثُمَّ فِتْنَةُ الدُّهَيْمَاءِ): قَالَ الْقَارِي: (وَهِيَ السَّوْدَاء وَالتَّصْغِير لِلذَّمِّ أَيْ الْفِتْنَة الْعَظْمَاء وَالطَّامَّة الْعَمْيَاء.
* (لَا تَدَعُ أَحَداً مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا لَطَمَتْهُ لَطْمَةً): أَيْ لَا تَتْرُك أَحَداً مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا أَصَابَتْهُ بِمِحْنَةٍ وَمَسَّتْهُ بِبَلِيَّةٍ.
* (فَإِذَا قِيلَ انْقَضَتْ تَمَادَتْ): أَيْ فَمَهْمَا تَوَهَّمُوا أَنَّ تِلْكَ الْفِتْنَة اِنْتَهَتْ اِسْتَطَالَتْ وَاسْتَمَرَّتْ وَاسْتَقَرَّتْ.
* (يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيهَا مُؤْمِناً، وَيُمْسِي كَافِراً): مُؤْمِناً لِتَحْرِيمِهِ دَم أَخِيهِ وَعِرْضه وَمَاله, وكَافِراً لِتَحْلِيلِهِ مَا ذُكِرَ.

   أقولُ: ثَارَتْ الشُّعُوبُ عَلَى الْحُكَّامِ وَبَدَأتْ فِتنةُ الدُّهَيْمَاءُ؛ وَبَدَأَ سُقُوطُ الْحُكَّامِ الْمُسْتَبِدِّينَ وَاحِدَاً تِلْوِ الْآخَرِ, وَمَا تُوقَّعَهُ النَّاسُ خَيْرَاً هُوَ مَا فَتَحَ أَبْوَابَ فُرْقَةٍ وَاِخْتِلَافٍ, وَفِتْنٍ وَاِفْتِنَانٍ, وَصِراعٍ وَتَصَارُعٍ؛ حَتَّى الْتُبِسَ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ وَالْبَاطِلُ بِالْحَقِّ, وَكُلَّمَا قُلَّنَا اِنْقَضَتْ؛ تَمَادَتْ. وَكُلَّمَا تَوَهَّمُنا أَنَّها اِنْتَهَتْ اِسْتَطَالَتْ.
فَمِنْ تُونُس, إِلَى مِصْر, وَالْيَمَن, وَلِيْبِيَا ..... إِلَى سُورِيا الَّتِي سَيَكون نَتِيجَةً مَا يَحْدُثُ فِيهَا أَنْ يَصِيرَ النَّاسُ إِلَى فُسْطَاطَيْنٍ . وَالله أَعلَمُ.

* (حَتَّى يَصِيرَ النَّاسُ إِلَى فُسْطَاطَيْنِ: فُسْطَاطِ إِيمَانٍ لَا نِفَاقَ فِيهِ، وَفُسْطَاطِ نِفَاقٍ لَا إِيمَانَ فِيهِ): أَيْ فِرْقَتَيْنِ, مؤمنين, ومنافقين.
   أقولُ: ومازلنا نعيش الفِتنةَ الدُّهَيْمَاء؛ وَالَّتِي قَدْ تَمْتَدُّ الى أنْ تَصِلَ جَزِيرَةَ الْعَرَبِ. وَالَّتِي يُعَجِّلُ الْمَارِقُونَ وَالْخَارِجُونَ كَــــ (داعش) ([3]) بها. حَتَّى يَكُونُ ظُهُور الدَّجَّال.

* (فَإِذَا كَانَ ذَاكُمْ فَانْتَظِرُوا الدَّجَّالَ مِنْ يَوْمِهِ أَوْ مِنْ غَدِهِ): أَيْ ظُهُور الدَّجَّالَ.

   أقولُ: مِنَ المَعلُومِ وَالثَّابِتِ أنَّ خُرُوجَ الدَّجَّالِ أو ظُهورَهُ هُوَ أوّل عَلامَاتِ السَّاعةِ العَشْرِ الكُبْرَى, وتسبقهُ خِلَافَةٌ رَاشِدَةٌ على منهاج النبوة ([4]). وَيسبقهُ المَهدِيُّ المُنتَظرُ عَليه السَّلَامُ ([5])؛ وَهُوَ الَّذِي لَنْ تَجْتَمِعَ الْأُمَّةُ عَلَى أحَدٍ غَيْرَه, وَلَنْ تَتَسَاقَطَ الرّايَاتُ إلّا تَحْتَ رايَتِهِ بَعْدَ الْخِلاَفَةِ الرَّاشِدَةِ الثَّانِيَةِ ([6]). وَالَّتِي عَاصِمَتُهَا الْقُدْس؛ فَالنُّصُوصُ تُثْبِتُ عَوْدَةَ الْخِلاَفَةِ الْإِسْلامِيَّةِ، وَسِيادَتَهَا الْعَالَمَ كُلَّه؛ وَقَدْ صَحَّ عَنِ الصَّادِقِ المصدوق عَلَيه الصَّلاَةَ وَالسّلامَ :"إِذَا رَأَيْتَ الْخِلَافَةَ قَدْ نَزَلَتْ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ فَقَدْ دَنَتْ الزَّلَازِلُ وَالْبَلَايَا وَالْأُمُورُ الْعِظَامُ وَالسَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ إِلَى النَّاسِ مِنْ يَدَيَّ هَذِهِ مِنْ رَأْسِكَ " ([7]). "عُمْرَانُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ خَرَابُ يَثْرِبَ, وَخَرَابُ يَثْرِبَ خُرُوجُ الْمَلْحَمَةِ, وَخُرُوجُ الْمَلْحَمَةِ فَتْحُ قُسْطَنْطِينِيَّةَ, وَفَتْحُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ خُرُوجُ الدَّجَّالِ" ([8]).

   وَفَتَحَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ سَيَتِمُّ فِي زَمَنِ الْمَهْدِيِ الَّذِي يَنْزِلُ عِيسَى عَلَيه السّلامَ فِي زَمَنِهِ, وَعُمْرَانُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سيكون بِالْخِلاَفَةِ الرَّاشِدَةِ الثَّانِيَةِ.

وَالله تَعَالَى أَعلَمُ.
وَصَلِّ اللهمَّ وَسَلمْ وَبَارِكْ وَتَرحَّمْ عَلَى عَبدِكَ وَرَسُولِكَ مُحَمَّدٍ النَّبيِّ الأَعظَم, وَعَلَى آلهِ وَصَحِبهِ أَجمَعِيْن, وَ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِين
"سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ".





([1]) رَوَاهُ أبُو دَاوُدَ/4242 وسكتَ عنهُ, وَرَوَاهُ أحْمَدُ, وَصَحح إسنادهُ أحمد شاكر 9/24. وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ في المستدرك 5/661, وَوَافَقهُ الذَّهَبِيُّ. وَصَحَّحَهُ الألبانِي في صحيح سنن أبي دَاوُدَ/4242, وفي صحيح الجامع/4194, وقال السِّلْسِلَة الصَّحيحة 2/666: إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات رجال البخاري غير العلاء بن عتبة وهو صدوق).
([2]) عَون المَعبُودِ شَرْحِ سُنَنِ أبِي دَاوُدَ لِمُؤلِفهِ العَلاَّمَة والمُحَقق والمُحَدِّث: مُحَمَّد شَمس الحَقِّ العَظِيم آبَادِي؛ فإنِّي أخذتُ مِنهُ بِتصَرّفٍ.
([3]) هناك بحث لي بعنوان: (احْذَرُوا فِتنَ الظَّلَامِ, وَدَوْلَةَ الإسْلَامِ في العِراقِ والشَّامِ). سأنشرهُ قريباً إن شاء الله.
([4]) (أن المهدي والمسيح - عليهما السلام – سيتعاصران: أن خلافة راشدة ستسبقهما، .... سيكون قبل ذلك خلافة على منهاج النبوة تكتسح الأرض كلها، وستفتح الأمة الإسلامية العالم، ولا يبقى بيت مَدَرٍ ولا وَبَرٍ إلا دخلته كلمة الإسلام بعز عزيز وذل ذليل) مما قالهُ سعيد حوى رحمهُ اللهُ بِتصَرّفٍ.
([5]) المهدي المنتظر حقيقة أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة صحيحة، وقال الشوكاني: (والأحاديث في تواتر ما جاء في المهدي المنتظر ، التي أمكن الوقوف عليها ، منها خمسون حديثاً، فيها الصحيح والحسن والضعيف المنجبر، وهي متواترة بلا شك ولا شبهة).
(أنه يحكم بالإسلام، وينشر العدل بين الأنام)، "وظني أن المهدي سيكون رجلاً فريداً في كل باب، فريداً في علمه، فريداً في ورعه، فريداً في عبادته، فريداً في خُلُقه، وأنه سيظهر وقد تهيأ للعالم الإسلامي وضع صَلُحَ فيه أمر الأمة، وتمت فيه مرحلتا (التصفية والتربية)، ولم يبق إلا ظهور الزعيم المُصْلح الذي يقوده؛ وهو المهدي). مما قالهُ الألباني رحمهُ اللهُ بِتصَرّفٍ.
([6]) في الحديث الصحيح: "تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَاضًّا، فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ الله ُأَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا جَبْرِيّاً، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ ، ثُمَّ سَكَتَ".
([7]) رواهُ أحمد، والبخاري في تاريخه، وَأبُو دَاوُدَ وسكتَ عنهُ, وصححه الألباني في صحيح أبو داود/2535؛ فأخبر أن الخلافة في آخر الزمان تكون في القدس، وبعد ذلك تظهر الأشراط الكبرى للساعة بما تحمله من زلازل وفتن.
(الظاهر أن الحديث في خلافة تكون عاصمتها القدس، وإلى القدس يذهب المسيح بعد نزوله في دمشق). مما قالهُ سعيد حوى رحمهُ اللهُ بِتصَرّفٍ.
([8]) رَوَاهُ أبُو دَاوُدَ وسكتَ عنهُ, وصححه الألباني في صحيح أبو داود/4294.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق